ورد العشاء التمجيد للإمام عبد القادر الجيلاني
سيدي عبد القادر بن موسى بن عبد الله الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني (ت. 561 هـ)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ تَسْبِيحاً يَلِيقُ بِجَلاَلِ مَنْ لَهُ السُّبُحَاتُ ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْداً كَثِيراً يُوَافِي نِعَمَهُ وَيَدْفَعُ نِقَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ عَلَى جَمِيعِ الْحَالاَتِ ، وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ تَوْحِيدَ مُحَقِّقٍ مُخْلِصٍ قَلْبُهُ بِحَقِّ الْيَقِينِ عَنِ الشُّكُوكِ والظُّنُونِ والأَوْهَامِ والشُّبُهَاتِ ، واللَّهُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ أَوْ يُدْرَكَ ؛ بَلْ هُوَ مُدْرِكٌ وَمُحِيطٌ بِكُلِّ الْجِهَاتِ ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ .
إلَهَنَا تَعَاظَمْتَ عَلَى الْكُبَرَاءِ والْعُظَمَاءِ فَأَنْتَ الْعَظِيمُ الْكَبِيرُ ، وَتَكَرَّمْتَ عَلَى الْفُقَرَاءِ والأَغْنِيَاءِ فَأَنْتَ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ ، وَمَنَنْتَ عَلَى الْعُصَاةِ مِنَّا والطّائِعِينَ بِسَعَةِ رَحْمَتِكَ فَأَنْتَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ .. تَعْلَمُ سِرِّنَا وَجَهْرَنَا ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا فَأَنْتَ الْعَلِيمُ .. لاَ تَدْبِيرَ لِلْعَبْدِ مَعَ تَدْبِيرِكَ ، وَلاَ إرَادَةَ لَهُ مَعَ مَشِيئَتِكَ وَتَقْدِيرِكَ .. لَوْلاَ وُجُودُكَ لَمَا كانَتِ الْمَخْلُوقَاتُ ، وَلَوْلاَ حِكْمَةُ صُنْعِكَ لَمَا عُرِفَتِ الْمَصْنُوعَاتُ .. خَلَقْتَ الآدَمِيَّ وَبَلَوْتَهُ بِالْحَسَنَاتِ والسَّيِّئَاتِ ، وَأَبْرَزْتَهُ فِي هَذِه الدّارِ لِمَعْرِفَتِكَ وَحَجَبْتَهُ عَنْ باطِنِ الأَمْرِ بِظَاهِرِ الْمَرْئِيّاتِ ، وَكَشَفْتَ لِمَنْ شِئْتَ عَنْ سِرِّ التَّوْحِيدِ فَبِهَذَا شَهِدَ الْكَوْنُ والتَّكْوِينُ والْكَائِنَاتُ ، وَأَشْهَدْتَهُ بِهِ حَضَرَاتِ قُدْسِكَ وَلَطَائِفَ مَعَانِي سِرِّكَ الْبَاطِنِ فِي الْمَظَاهِرِ والظّاهِرِةِ بِأَنْوَاعِ التَّجَلِّيَاتِ .
إلَهَنَا أَيُّ كَيْدٍ لِلشَّيْطَانِ فَهُوَ ضَعِيفٌ مَعَ قُوَّتِكَ واقْتِدَارِكَ ، وَأَيُّ رَيْنٍ عَلَى الْقُلُوبِ مَعَ ظُهُورِ أَنْوَارِكَ ؟!
إلَهَنَا إذَا عَمَرْتَ قَلْباً اضْمَحَلَّ عَنْهُ كُلُّ شَيْطَانٍ ، وَإذَا عَنَيْتَ بِعَبْدٍ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ .. اتَّصَفْتَ بِالأَحَدِيَّةِ فَأَنْتَ الْمَوْجُودُ ، وَنَعَتَّ نَفْسَكَ بِجَلاَلِ الرُّبُوبِيَّةِ فَأَنْتَ الْمَعْبُودُ ، وَخَلَّصْتَ ضِيقَ أَرْوَاحِ مَنِ اخْتَصَصْتَ مِنْ رِبْقِ الأَشْبَاحِ إلَى فَضَاءِ الشُّهُودِ .. أَنْتَ الأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، والآخِرُ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ حادِثٌ مَفْقُودٌ ، لاَ مَوْجُودَ إلاَّ بِوُجُودِكَ ، وَلاَ حَيَاةَ لِلْأَرْوَاحِ إلاَّ بِشُهُودِكَ .. أَشَرْتَ إلَى الأَرْوَاحِ فَأَجَابَتْ ، وَكَشَفْتَ عَنِ الْقُلُوبِ فَطَابَتْ .. فَهَنِيئا لِهَيَاكِلَ أَرْوَاحُهَا لَكَ مُجِيبَةٌ ، وَلِقَوَالِبَ قُلُوبُهَا فاهِمَةٌ عَنْكَ مُنِيبَةٌ إلَيْكَ .
إلَهَنَا فَطَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ الدَّنَسِ لِتَكُونَ مَحَلاًّ لِمُنَازَلاَتِ وُجُودِكَ ، وَخَلِّصْنَا مِنْ لَوْثِ الأَغْيَارِ لِخَالِصِ تَوْحِيدِكَ حَتَّى لاَ نَشْهَدَ غَيْرَ أَفْعَالِكَ وَصِفَاتِكَ وَتَجَلِّيَ عَظِيمِ ذاتِكَ ؛ فَإنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ الْمَانِحُ الْهَادِي الْقَادِرُ الْفَاتِحُ .
إلَهَنَا إنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ بِيَدِكَ ، وَأَنْتَ واهِبُهُ وَمُعْطِيهِ ، وَعِلْمُهُ مُغَيَّبٌ عَلَى الْعَبْدِ لاَ يَدْرِي مِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ ، وَطَرِيقُهُ مُبْهَمٌ مَجْهُولٌ عَلَيْهِ ، وَأَنْتَ دَلِيلُهُ وَقَائِدُهُ وَمُهْدِيهِ ؛ فَخُذْ بِنَوَاصِينَا إلَى مَا هُوَ أَحْسَنُهُ وَأَتَمُّهُ ، وَخُصَّنَا مِنْكَ بِمَا هُوَ أَوْسَعُهُ وَأَخَصُّهُ وَأَتَمُّهُ وَأَعَمُّهُ ؛ فَإنَّ الأَكُفَّ لاَ تُبْسَطُ إلاَّ لِلْغَنِيِّ الْكَرِيمِ ، وَلاَ تُطْلَبُ الرَّحْمةُ إلاَّ مِنَ الْغَفُورِ الرَّحِيمِ ، وَأَنْتَ الْمَقْصُودُ الَّذِي لاَ يَتَعَدّاهُ مُرَادٌ ، والْكَنْزُ الَّذِي لاَ حَدَّ لَهُ وَلاَ نَفَادَ .
إلَهَنَا فَأَعْطِنَا فَوْقَ مَا نُؤَمِّلُ وَمَا لاَ يَخْطُرُ بِبَالٍ يَا مَنْ هُوَ واهِبٌ كَرِيمٌ مُجِيبُ السُّؤَالِ ؛ فَإنَّهُ لاَ مانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ ، وَلاَ مُبَدِّلَ لِمَا حَكَمْتَ ، وَلاَ هادِيَ لِمَا أَضْلَلْتَ ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ ؛ فَإنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَى عَلَيْكَ ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ، وَلاَ مُقْعِدَ لِمَنْ أَقَمْتَ ، وَلاَ مُعَذِّبَ لِمَنْ رَحِمْتَ ، وَلاَ حِجَابَ لِمَنْ عَنْهُ كَشَفْتَ ، وَلاَ كُرُوبَ ذَنْبٍ لِمَنْ بِهِ عَنَيْتَ وَعَصَمْتَ ، وَقَدْ أَمَرْتَ وَنَهَيْتَ ؛ وَلاَ قُوَّةَ لَنَا عَلَى الطّاعَةِ وَلاَ حَوْلَ لَنَا عَنِ الْمَعْصِيَةِ إلاَّ بِكَ ؛ فَبِقُوَّتِكَ عَلَى الطَّاعَةِ قَوِّنَا ، وَبِحَوْلِكَ وَقُدْرَتِكَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ جَنِّبْنَا ؛ حَتَّى نَتَقَرَّبَ إلَيْكَ بِطَاعَتِكَ وَنَبْعُدَ عَنْ مَعْصِيَتِكَ وَنَدْخُلَ فِي وَصْفِ هِدَايَةِ مَحَبَّتِكَ وَنَكُونَ بِآدَابِ عُبُودِيَّتِكَ قائِمِينَ وَبِجَلاَلِ رُبُوبِيَّتِكَ طائِعِينَ ، واجْعَلْ أَلْسِنَتَنَا لاَهِيَةً بِذِكْرِكَ وَجَوَارِحَنَا قائِمَةً بِشُكْرِكَ وَنُفُوسَنَا سامِعَةً مُطِيعَةً لِأَمْرِكَ ، وَأَجِرْنَا مِنْ مَكْرِكَ ، وَلاَ تُؤْمِنَّا مِنْهُ حَتَّى لاَ نَبْرَحَ لِعَظِيمِ عِزَّتِكَ مُذْعِنِينَ وَمِنْ سَطْوَةِ هَيْبَتِكَ خائِفِينَ ؛ فَإنَّهُ لاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ، وَأَعِذْنَا اللَّهُمَّ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَرُؤْيَةِ أَعْمَالِنَا وَمِنْ شَرِّ كَيْدِ الشَّيْطَانِ ، واجْعَلْنَا مِنْ خَوَاصِّ عِبَادِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ؛ فَإنَّهُ لاَ قُوَّةَ لَهُ إلاَّ عَلَى مَنْ سَلَبْتَ عَنْهُ نُورَ التَّوْفِيقِ وَخَذَلْتَهُ ، وَلاَ يَقْرُبُ إلاَّ مِنْ قَلْبٍ حَجَبْتَهُ بِالْغَفْلَةِ عَنْكَ وَأَمَتَّهُ وَأَهَنْتَهُ .
إلَهَنَا فَمَا حِيلَةُ الْعَبْدِ وَأَنْتَ تُقْعِدُهُ ؟! وَمَا وُصُولُهُ وَأَنْتَ تُبْعِدُهُ ؟! هَلِ الْحَرَكَاتُ والسَّكَنَاتُ إلاَّ بِإذْنِكَ ؟! وَمُنْقَلَبُ الْعَبْدِ وَمَثْوَاهُ إلاَّ بِعِلْمِكَ ؟!
إلَهَنَا فاجْعَلْ حَرَكَاتِنَا بِكَ وَسَكَنَاتِنَا لَكَ وَشُكْرَنَا لَكَ ، واقْطَعْ جَمِيعَ جِهَاتِنَا بِالتَّوَجُّهِ إلَيْكَ ، واجْعَلِ اعْتِمَادَنَا فِي كُلِّ الأُمُورِ عَلَيْكَ ؛ فَمَبْدَأُ الأَمْرِ مِنْكَ ، وَهُوَ راجِعٌ إلَيْكَ .
إلَهَنَا إنَّ الطّاعَةَ والْمَعْصِيَةَ سَفِينَتَانِ سائِرَتَانِ بِالْعَبْدِ فِي بَحْرِ الْمَشِيئَةِ إلَى ساحِلِ السَّلاَمَةِ أَوِ الْهَلاَكِ ، فالْوَاصِلُ إلَى ساحِلِ السَّلاَمَةِ هُوَ السَّعِيدُ الْمُقَرَّبُ ، وَذُو الْهَلاَكِ هُوَ الشَّقِيُّ الْمُبْعَدُ الْمُعَذَّبُ .
إلَهَنَا أَمَرْتَ بِالطّاعَةِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَقَدْ سَبَقَ تَقْدِيرُهُمَا ، والْعَبْدُ فِي قَبْضَةِ تَصْرِيفِكَ ، زِمَامُهُ بِيَدِكَ تَقُودُهُ إلَى أَيِّهِمَا أَرَدْتَ ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِكَ تُقَلِّبُهُ كَيْفَ شِئْتَ ..
إلَهَنَا فَثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى مَا بِهِ أَمَرْتَ ، وَجَنِّبْنَا عَمَّا نَهَيْتَ ؛ فَإنَّهُ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ ، سُبْحَانَكَ لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَ الْخَلْقَ قِسْمَيْنِ وَفَرَّقْتَهُمْ فَريِقَيْنِ : فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ .. هَذَا حُكْمُكَ فِيمَا سَبَقَ بِهِ قَسْمُكَ ، فَهَنِيئاً لِمَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْكَ الْعِنَايَةُ وَفَازَ بِالْقُرْبِ والْوِلاَيَةِ .. حُكْمُكَ عَدْلٌ ، وَتَقْدِيرُكَ حَقٌّ ، وَسِرُّكَ غامِضٌ فِي هَذَا الْخَلْقِ ، وَمَا نَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِنَا ، فافْعَلْ بِنَا مَا أَنْتَ أَهْلُهُ ، وَلاَ تَفْعَلْ بِنَا مَا نَحْنُ أَهْلُهُ ؛ فَإنَّكَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ..
إلَهَنَا فاجْعَلْنَا مِنْ خَيْرِ فَرِيقٍ وَمِمَّنْ سَلَكَ الأَيْمَنَ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الآخِرَةِ ، وارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ ، واعْصِمْنَا بِعِصْمَتِكَ لِنَكُونَ مِنَ الْفَائِزِينَ ، وَدُلَّنَا عَلَيْكَ لِنَكُونَ مِنَ الْوَاصِلِين .
إِنَّ وَلِيِّىَ اللَّهُ الَّذِى نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِين .
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين .
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ السّابِقِ لِلْخَلْقِ نُورُهُ والرَّحْمَةِ لِلْعَالَمِينَ ظُهُورُهُ عَدَدَ مَنْ مَضَى مِنْ خَلْقِكَ وَمَنْ بَقِيَ وَمَنْ سَعِدَ مِنْهُمْ وَمَنْ شَقِيَ ؛ صَلاَةً تَسْتَغْرِقُ الْعَدَّ وَتُحِيطُ بِالْحَدِّ ، صَلاَةً لاَ غايَةَ لَهَا وَلاَ أَمَدَ وَلاَ انْتِهَاءَ وَلاَ انْقِضَاءَ ، صَلاَتَكَ الَّتِي صَلَّيْتَ عَلَيْهِ ، صَلاَةً دائِمَةً بِدَوَامِكَ وَبَاقِيَةً بِبَقَائِكَ ، لاَ مُنْتَهَى لَهَا دُونَ عِلْمِكَ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ ، وَسَلِّمْ تَسْلِيماً مِثْلَ ذَلِك .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين .